الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَوْفُورًا بِمَعْنَى وَافِرٍ لَا دَاعِيَ لَهُ. بَلْ مَوْفُورًا اسْمُ مَفْعُولٍ عَلَى بَابِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: وَفَرَ الشَّيْءَ يَفِرُهُ، فَالْفَاعِلُ وَافِرٌ، وَالْمَفْعُولُ مَوْفُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَعَلَيْهِ: فَالْمَعْنَى: جَزَاءً مُكَمَّلًا مُتَمَّمًا. وَتُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْمَادَّةُ لَازِمَةً أَيْضًا تَقُولُ: وَفَرَ مَالُهُ فَهُوَ وَافِرٌ؛ أَيْ كَثِيرٌ. وَقَوْلُهُ: {مَوْفُورًا} نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ قَبْلَهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالسَّيْءُ فِي بَيْتِ زُهَيْرٍ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مَفْتُوحَةً بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ هَمْزٌ: اللَّبَنُ الَّذِي يَكُونُ فِي أَطْرَافِ الْأَخْلَافِ قَبْلَ نُزُولِ الدِّرَّةِ، وَالْحَشَكُ أَصْلُهُ السُّكُونُ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرُ حَشَكَتِ الدِّرَّةُ: إِذَا امْتَلَأَتْ، وَإِنَّمَا حَرَّكَهُ زُهَيْرٌ لِلْوَزْنِ. وَالْغَيْطَلَةُ هُنَا: بَقَرَةُ الْوَحْشِ ذَاتُ اللَّبَنِ. وَقَوْلُهُ: {بِصَوْتِكَ} [17/ 64]، قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ اللَّهْوُ وَالْغِنَاءُ وَالْمَزَامِيرُ؛ أَيِ اسْتَخِفَّ مَنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْتَخِفَّهُ مِنْهُمْ بِاللَّهْوِ وَالْغِنَاءِ وَالْمَزَامِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَوْتُهُ يَشْمَلُ كُلَّ دَاعٍ دَعَا إِلَى مَعْصِيَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ طَاعَةً لَهُ. وَقِيلَ: بِصَوْتِكَ: أَيْ وَسْوَسَتِكَ. وَقَوْلُهُ: وَأَجْلِبْ أَصْلُ الْإِجْلَابِ: السَّوْقُ بِجَلَبَةٍ مِنَ السَّائِقِ. وَالْجَلَبَةُ: الْأَصْوَاتُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَجْلَبَ عَلَى فَرَسِهِ، وَجَلَبَ عَلَيْهِ: إِذَا صَاحَ بِهِ مِنْ خَلْفٍ وَاسْتَحَثَّهُ لِلسَّبْقِ. وَالْخَيْلُ تُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ الْأَفْرَاسِ، وَعَلَى الْفَوَارِسِ الرَّاكِبِينَ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ. وَالرَّجْلُ: جَمْعُ رَاجِلٍ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ: جَمْعُ الْفَاعِلِ وَصْفًا عَلَى فَعْلٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَأَوْضَحْنَا أَمْثِلَتَهُ بِكَثْرَةٍ، وَاخْتَرْنَا أَنَّهُ جَمْعٌ مَوْجُودٌ أَغْفَلَهُ الصَّرْفِيُّونَ؛ إِذْ لَيْسَتْ فَعْلٌ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- عِنْدَهُمْ مِنْ صِيَغِ الْجُمُوعِ، فَيَقُولُونَ فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ كَرَاجِلٍ وَرَجْلٍ، وَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ، وَشَارِبٍ وَشَرْبٍ: إِنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعٌ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ.وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: {وَرَجِلِكَ} [17/ 64] بِكَسْرِ الْجِيمِ- لُغَةٌ فِي الرَّجْلِ جَمْعِ رَاجِلٍ.وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ فَعِلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ نَحْوَ تَعِبٍ وَتَاعِبٍ وَمَعْنَاهُ: وَجَمْعِكَ الرَّجِلِ. اهـ؛ أَيْ: الْمَاشِينَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ.{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ} [17/ 64]، أَمَّا مُشَارَكَتُهُ لَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ فَعَلَى أَصْنَافٍ: مِنْهَا مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ طَاعَةً لَهُ؛ كَالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنِ اكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ بِالطُّرُقِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا كَالرِّبَا وَالْغَصْبِ وَأَنْوَاعِ الْخِيَانَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ طَاعَةً لَهُ.وَأَمَّا مُشَارَكَتُهُ لَهُمْ فِي الْأَوْلَادِ فَعَلَى أَصْنَافٍ أَيْضًا:مِنْهَا قَتْلُهُمْ بَعْضَ أَوْلَادِهِمْ طَاعَةً لَهُ.وَمِنْهَا أَنَّهُمْ يُمَجِّسُونَ أَوْلَادَهُمْ وَيُهَوِّدُونَهُمْ وَيُنَصِّرُونَهُمْ طَاعَةً لَهُ وَمُوَالَاةً.وَمِنْهَا تَسْمِيَتُهُمْ أَوْلَادَهُمْ عَبْدَ الْحَارِثِ وَعَبْدَ شَمْسٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ سَمَّوْا أَوْلَادَهُمْ عَبِيدًا لِغَيْرِ اللَّهِ؛ طَاعَةً لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَوْلَادُ الزِّنَى؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا تَسَبَّبُوا فِي وُجُودِهِمْ بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ؛ طَاعَةً لَهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ بَعْضَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشَارَكَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، كَقَوْلِهِ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [6/ 140] فَقَتْلُهُمْ أَوْلَادَهُمُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَاعَةً لِلشَّيْطَانِ مُشَارَكَةٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي أَوْلَادِهِمْ حَيْثُ قَتَلُوهُمْ فِي طَاعَتِهِ. وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ بَعْضِ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ طَاعَةً لَهُ مُشَارَكَةٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ أَيْضًا؛ وَكَقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} الْآيَةَ [6/ 136]، وَكَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [6/ 138]، وَقَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [10/ 59]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُبَيِّنَةِ بَعْضَ مُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ، مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ»، وَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ» انْتَهَى.فَاجْتِيَالُ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَتَحْرِيمُهَا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَضُرُّهَا لَهُمْ لَوْ تَرَكُوا التَّسْمِيَةَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِمْ. وَقَوْلُهُ: «فَاجْتَالَتْهُمْ» أَصْلُهُ افْتَعَلَ مِنَ الْجَوَلَانِ؛ أَيِ اسْتَخَفَّتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَجَالُوا مَعَهُمْ فِي الضَّلَالِ. يُقَالُ: جَالَ وَاجْتَالَ: إِذَا ذَهَبَ وَجَاءَ، وَمِنْهُ الْجَوَلَانُ فِي الْحَرْبِ، وَاجْتَالَ الشَّيْءَ: إِذَا ذَهَبَ بِهِ وَسَاقَهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَعِدْهُمْ؛كَالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَفْزِزْ، وَقَوْلِهِ: وَأَجْلِبْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لِلتَّهْدِيدِ.وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [17/ 64] بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ مَوَاعِيدَ الشَّيْطَانِ كُلَّهَا غُرُورٌ وَبَاطِلٌ؛ كَوَعْدِهِ لَهُمْ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ وَتُقَرِّبُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ زُلْفَى، وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا جَعَلَ لَهُمُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ فِي الدُّنْيَا سَيَجْعَلُ لَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ.وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [4/ 120]، وَقَوْلِهِ: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [57/ 14]، وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [14/ 22]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الْآيَةَ [17/ 65]، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ لَا سُلْطَانَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَذْفُ الصِّفَةِ كَمَا قَدَّرْنَا، وَيَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ الْمَحْذُوفَةِ إِضَافَتُهُ الْعِبَادَ إِلَيْهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ، وَتَدُلُّ لِهَذِهِ الصِّفَةِ الْمُقَدَّرَةِ أَيْضًا آيَاتٌ أُخَرُ؛ كَقَوْلِهِ: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [15/ 40]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [16/ 99- 100]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [15/ 42]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
يَعْنِي: إِذَا مَا هَبَّتْ بِشِدَّةٍ كَسَرَتْ عِيدَانَ شَجَرِ نَجْدٍ؛ رَتَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ فِي غَيْرِ الْبَحْرِ بِخَسْفٍ أَوْ عَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ- أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} الْآيَةَ [34/ 9]، وَقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} الْآيَةَ [6/ 65]، وَقَوْلِهِ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [67/ 16- 17]، وَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ لُوطٍ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [54/ 34]، وَقَوْلِهِ: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [51/ 33] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَالْحَاصِبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهَا السَّحَابَةُ أَوِ الرِّيحُ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ رِيحٍ شَدِيدَةٍ تَرْمِي بِالْحَصْبَاءِ تُسَمَّى حَاصِبًا وَحَصْبَةً، وَكُلُّ سَحَابَةٍ تَرْمِي بِالْبَرَدِ تُسَمَّى حَاصِبًا أَيْضًا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقَ: وَقَوْلُ لَبِيدٍ: وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [17/ 96]، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. أَيْ تَابِعًا يَتْبَعُنَا بِالْمُطَالَبَةِ بِثَأْرِكُمْ؛ كَقَوْلِهِ: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [91/ 14، 15]، أَيْ لَا يَخَافُ عَاقِبَةَ تَبِعَةٍ تَلْحَقُهُ بِذَلِكَ. وَكُلُّ مُطَالِبٍ بَدِينٍ أَوْ ثَأْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ تَبِيعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ يَصِفُ عُقَابًا: أَيْ: كَعِيَاذِ الْمَدِينِ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ الَّذِي يُطَالِبُهُ بِغُرْمِهِ مِنْهُ.وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: أَيْ خَصْمُهُنَّ مُطَالَبٌ بَدِينٍ.وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} الْآيَةَ [2/ 178]، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: {تَبِيعًا} أَيْ نَصِيرًا، وَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: نَصِيرًا ثَائِرًا.تَنْبِيهٌ:لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْكُفَّارَ وَعَاتَبَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي وَقْتِ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ خَاصَّةً يُخْلِصُونَ الْعِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ، وَلَا يَصْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ لِمَخْلُوقٍ، وَفِي وَقْتِ الْأَمْنِ وَالْعَافِيَةِ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي حُقُوقِهِ الْوَاجِبَةِ لَهُ وَحْدَهُ، الَّتِي هِيَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ جَهَلَةِ الْمُتَسَمِّينَ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا دَهَمَتْهُمُ الشَّدَائِدُ، وَغَشِيَتْهُمُ الْأَهْوَالُ وَالْكُرُوبُ الْتَجَئُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ مِمَّنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الصَّلَاحَ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُخْلِصُ فِيهِ الْكُفَّارُ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَوْضَحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ إِجَابَةَ الْمُضْطَرِّ وَإِنْجَاءَهُ مِنَ الْكَرْبِ مِنْ حُقُوقِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ.وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ الْآيَاتِ} [37/ 27] 59- 62، فَتَرَاهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ جَعَلَ إِجَابَةَ الْمُضْطَرِّ إِذَا دَعَا وَكَشْفَ السُّوءِ عَنْهُ مِنْ حَقِّهِ الْخَالِصِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ؛ كَخَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنْزَالِهِ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنْبَاتِهِ بِهِ الشَّجَرَ، وَجَعْلِهِ الْأَرْضَ قَرَارًا، وَجَعْلِهِ خِلَالَهَا أَنْهَارًا، وَجَعْلِهِ لَهَا رَوَاسِيَ، وَجَعْلِهِ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا، إِلَى آخَرِ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ؛ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ: كَانَ سَبَبَ إِسْلَامِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ؛ فَإِنَّهُ لِمَا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ ذَهَبَ فَارًّا مِنْهُ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ، فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْحَبَشَةِ، فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ، لَئِنْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهُ لَأَذْهَبَنَّ فَلَأَضَعَنَّ يَدِيَ فِي يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَجِدَنَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا. فَخَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ، فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. اهـ.وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {بِهِ تَبِيعًا} [17/ 69] رَاجِعٌ إِلَى الْإِهْلَاكِ بِالْإِغْرَاقِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} [17/ 69]، أَيْ لَا تَجِدُونَ تَبِيعًا يَتْبَعُنَا بِثَأْرِكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِغْرَاقِ.وَقَالَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي: وَضَمِيرُ: {بِهِ} قِيلَ لِلْإِرْسَالِ، وَقِيلَ لِلْإِغْرَاقِ، وَقِيلَ لَهُمَا بِاعْتِبَارِ مَا وَقَعَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}.قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْ تَكْرِيمِهِ لِبَنِي آدَمَ خَلْقُهُ لَهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ وَأَحْسَنِهَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَمْشِي قَائِمًا مُنْتَصِبًا عَلَى رِجْلَيْهِ، وَيَأْكُلُ بِيَدَيْهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَيَأْكُلُ بِفَمِهِ.وَمِمَّا يَدُلُّ لِهَذَا مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [95/ 4]، وَقَوْلُهُ: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [40/ 64] وَفِي الْآيَةِ كَلَامٌ غَيْرُ هَذَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الْآيَةَ، أَيْ فِي الْبِرِّ عَلَى الْأَنْعَامِ، وَفِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ.وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ كَقَوْلِهِ: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [23/ 22]، وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [43/ 12]، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا مُسْتَوْفًى بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا عَمِيَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ: وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [17/ 72]، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَتِ الصِّيغَةُ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ، بَلِ الْمَعْنَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى كَذَلِكَ لَا يَهْتَدِي إِلَى نَفْعٍ، وَبِهَذَا جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ.قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ لَفْظَةَ: {أَعْمَى} الثَّانِيَةَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ؛ أَيْ هُوَ أَشَدُّ عَمًى فِي الْآخِرَةِ.وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَأَضَلُّ سَبِيلًا؛ فَإِنَّهَا صِيغَةُ تَفْضِيلٍ بِلَا نِزَاعٍ. وَالْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ صِيغَتَيِ التَّعَجُّبِ وَصِيغَةَ التَّفْضِيلِ لَا يَأْتِيَانِ مِنْ فِعْلٍ، الْوَصْفُ مِنْهُ عَلَى أَفْعَلَ الَّذِي أُنْثَاهُ فَعْلَاءُ؛ كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:وَغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يُضَاهِي أَشْهَلَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا وُجِدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَصُوغًا مِنْ صِيغَةِ تَفْضِيلٍ أَوْ تَعَجُّبٍ غَيْرَ مُسْتَوْفٍ لِلشُّرُوطِ، أَنَّهُ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ؛ كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَأَبْيَضُهُمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ لَيْسَ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ، بَلِ الْمَعْنَى أَنْتَ وَحْدَكَ الْأَبْيَضُ سِرْبَالَ طَبَّاخٍ مِنْ بَيْنِهِمْ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا}.رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالُوا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نَدَعُكَ تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ حَتَّى تُلِمَّ بِآلِهَتِنَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، أَتَوُا النَّبِيَّ فَسَأَلُوهُ شَطَطًا، قَالُوا: مَتِّعْنَا بِآلِهَتِنَا سَنَةً حَتَّى نَأْخُذَ مَا يُهْدَى لَهَا، وَحَرِّمْ وَادِيَنَا كَمَا حَرَّمْتَ مَكَّةَ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ.وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَادُوا يَفْتِنُونَهُ، أَيْ قَارَبُوا ذَلِكَ. وَمَعْنَى يَفْتِنُونَكَ: يُزِلُّونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ مِمَّا لَمْ نُوحِهِ إِلَيْكَ.قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَارَبُوا ذَلِكَ فِي ظَنِّهِمْ لَا فِيمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ خَطَرَ فِي قَلْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوَافِقَهُمْ فِي بَعْضِ مَا أَحَبُّوا لِيَجُرَّهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى إِسْلَامِهِمْ.وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ الْإِتْيَانَ بِغَيْرِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ؛ بَلْ يَتَّبِعُ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [10/ 15]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِنْ كَادُوا} [17/ 73]، هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَهِيَ هُنَا مُهْمَلَةٌ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنِ النَّافِيَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَالْغَالِبُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ كَذَلِكَ مَعَ فِعْلٍ إِلَّا إِنْ كَانَ نَاسِخًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي النَّحْوِ.
|